تعد منطقة سيرينجيتي مصدر فخر وطني لتنزانيا لا يقدر بثمن، فهي موطن لواحد من أكثر النظم البيئية تنوعاً على هذا الكوكب؛ ومع ذلك فهي كذلك من المناطق المعرّضة للخطر، حيث يهدد النمو الحضري والصيد الجائر كائناتها الحية. لكن ولحسن الحظ، فإن المساعي الرامية للحفاظ على هذا الكنز الثمين لا تتوقف.
عبر سهول سيرينجيتي المترامية، تدق ملايين الحيوانات البرية حوافرها في الأرض متتبعة خط سير قديم عبر شرق إفريقيا في رحلتها للبحث عن المياه والمراعي الخضراء. تنطلق القطعان في رحلتها هذه عاماً بعد عام، لتكمل حلقة متصلة من سيرينجيتي في تنزانيا وحتى ماساي مارا في كينيا ذهاباً وإياباً. لكن ومع الوقت، بدأت أعداد هذه القطعان بالتناقص، وبات الخطر يلاحق ديمومة واحدة من آخر هجرات الحياة البرية السليمة على هذا الكوكب.
وخلافاً لما قد يعتقد البعض، فإن الخطر لا يمكن في الحيوانات المفترسة التي تكون على أهبة الاستعداد على أمل الانقضاض على القطيع على حين غرة، وإنهاء رحلته الشاقة، فهذا يُعد جزءاً من دورة الحياة الطبيعية، إذ تُولد آلاف الحيوانات كل عام لتعويض الأعداد المفقودة. لكن العقبات النهائية والتي قد تبدو للوهلة الأولى أقل ضرراً، تعد أكبر خطر محدق بهذه الهجرة. وتتمثل هذه العقبات بظهور الطرق الجديدة والأسوار والمستوطنات والمزارع والمنشآت الحضرية الأخرى على طرق الهجرة القديمة، ما يقلل عدد المناطق التي يمكن لهذه الحيوانات التجول فيها بحرية. كل ذلك إلى جانب التحديات الأخرى المتمثلة بالرعي الجائر والزراعة والصيد غير القانوني.
ولحسن الحظ، بدأت الأمور تأخذ مساراً آخر خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أدركت الحكومة التنزانية الحاجة الملحة لتنفيذ مشاريع من شأنها الحفاظ على الحياة البرية وحمايتها. وبدأت بالفعل بمناقشة التحديات لمعالجة الاختلالات بهدف حماية جمال وعجائب تنزانيا بدءاً من كليمنجارو مروراً بالساحل الشرقي المبهر وحتى الغابات المورقة والسافانا. ومع زيادة أعداد السياح، تزايدت كذلك أعداد شركات السفر المستدام المستقلة والمنظمات غير الحكومية، التي تسعى إلى ضمان الحفاظ على صحة المجتمع المحلي والبيئة والكوكب.
تكثيف جهود الحفاظ على البيئة
تأسست حديقة سيرينجيتي الوطنية في عام 1951 كمنتزه وطني رئيسي في تنزانيا. وبعد عقد من الزمان، بدأ شعار "سيرينجيتي لن تموت" يكتسب شعبية كبيرة في الستينيات عندما ألف برنارد ومايكل جرزيميك كتاباً يحمل الاسم نفسه.
كان أول رئيس لتنزانيا، الراحل مواليمو جوليوس ك. نيريري قد صرح قائلاً: " إن الحفاظ على الحياة البرية هو مصدر قلق بالغ لنا جميعاً في أفريقيا. وبقبول الوصاية على الحياة البرية في بلدنا، نعلن رسمياً أننا سنبذل قصارى جهدنا للتأكد من أن الأجيال القادمة ستتمكن من التمتع بهذا الإرث الثري والثمين".
ساعد هذا الشعار في لفت أنظار المجتمع العالمي للحاجة الملحة للحفاظ على سيرينجيتي، وخصصت تنزانيا منذ ذلك الحين أكثر من 42 ألف كيلومتر مربع لما مجموعه 16 متنزهاً وطنياً، يشكل الكثير منها اليوم جوهر نظام بيئي محمي أكبر بكثير. وفي عام 1981، تم إدراج حديقة سيرينجيتي الوطنية في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو باعتبارها واحدة من الأماكن القليلة المتبقية على الكوكب ذات التنوع البيولوجي العالي، كما أنها موطن لأنواع حيوانات معرضة للخطر أو مهددة بالانقراض، مثل وحيد القرن الأسود والفيل والكلب البري والفهد.
وكان من أهم القرارات أيضاً، إنشاء هيئة تانابا (حدائق تنزانيا الوطنية) لإدارة سيرينجيتي والمتنزهات الأخرى والمناطق المحمية في البلاد. تعمل الهيئة بشكل وثيق مع المنظمات غير الحكومية، مثل مشروع الحفاظ على سيرينجيتي والهادف للحفاظ على التراث الطبيعي الغني للبلاد وتوفير مناطق تكاثر آمنة يمكن أن تزدهر الحيوانات والنباتات فيها.
ولمواجهة تحديات الصيد غير القانوني وفقدان الموائل والنزاعات بين الإنسان والحياة البرية التي تفاقمت بسبب النمو السكاني والفقر، تم تنفيذ استراتيجيات متعددة من قبل "تانابا" على مدى السنوات القليلة الماضية، مع التركيز بشكل كبير على تنمية السياحة المستدامة ومشاركة المجتمع. والتزمت الهيئة بالتركيز على الزيارات المستدامة ذات الأثر البيئي المنخفض لحماية البيئة من أضرار لا يمكن إصلاحها عند فوات الأوان، في الوقت الذي تعمل فيه على ترسيخ مكانة تنزانيا كوجهة سياحية بيئية من الدرجة الأولى. وتقوم الهيئة كذلك بمراقبة النشاط البشري عن كثب وتنظيم جميع عمليات التطوير بشكل صارم. وبفضل جهود الهيئة في سيرينجيتي، لا تزال أكثر من 7000 كيلومتر مربع، أي ما يقرب من نصف مساحة المنتزه، عبارة عن منطقة برية بدون طرق.
علاوة على ذلك، أشركت السلطة المجتمع المحلي لحماية موائلهم الثمينة من خلال توظيفهم داخل الحدائق، لا سيما في مكافحة الصيادين غير القانونيين. وقد لعب وجود الموظفين في معظم معسكرات السفاري والنزل التي تعمل داخل المتنزهات الوطنية وداخل ممرات الحياة البرية دوراً رئيسياً في ردع الصيادين غير القانونيين. كما يتم توظيف الحراس للقيام بدوريات برية وجوية منتظمة لاكتشاف الاضطرابات في الموائل وكذلك تحديد وتدمير الأفخاخ السلكية وغيرها من الفخاخ التي نصبها الصيادون. وأخيراً، وضعت قوانين صارمة لمكافحة الصيد الجائر، وذلك للحد من فقدان بعض أنواع الحيوانات المهددة بالانقراض بسبب الممارسات غير القانونية.
تعمل "تانابا" أيضاً مع المجتمعات المحلية لتعليم الإدارة البيئية المستدامة، والمساعدة في غرس الأشجار، وإنشاء المشاتل وكذلك تعزيز الحفاظ على الثقافة والحياة البرية. ويواصل العلماء العاملون في هذه الحدائق العثور على أنواع من النباتات والطيور والحشرات غير المكتشفة سابقاً أثناء قيامهم بإجراء مسوحات لمراقبة صحة النظام البيئي. يشكل هذا البحث جزءاً أساسياً من المواد الدراسية الجديدة للمعلمين والمدارس، مما يساعد في تثقيف المجتمع المحلي حول أهمية الحفاظ على هذه الموائل الغنية.
وتقوم السلطة حالياً بالاستحواذ على مزيد من الأراضي لتوسيع بعض المتنزهات ورفع مكانة ممرات الهجرة التقليدية التي تربط المناطق المحمية. ونتيجة لهذه الجهود، مُنحت تنزانيا شكلاً من أشكال الحماية الرسمية لأكثر من ثلث أراضيها، بما في ذلك محميات أخرى ومتنزهات بحرية.
ما الذي يمكننا القيام به لدعم هذه الجهود؟
إحدى الطرق الأساسية التي يمكن لهيئة "تانابا" من خلالها تمويل أعمال حماية الحياة البرية بشكل مستدام، هي رسوم دخول المنتزه ورسوم الامتياز التي يدفعها السياح ومنظمو الرحلات الذين يزورون هذه المتنزهات في رحلاتهم إلى تنزانيا، إذ تُعد السياحة من مصادر الدخل الرئيسية للسلطة، مما يوفر المزيد من الأموال لعملياتها الشاملة.
وبهذا الصدد، نسترجع كلمات الرئيس نيريري، عندما قال: "إن الحفاظ على الحياة البرية هو مصدر قلق بالغ لنا جميعاً"، ما يعني أنه تقع على عاتق كل سائح مسؤولية اختيار مزودي خدمات السفر بحكمة والمساهمة في دعم الشركات التي تنفذ عملياتهم بمسؤولية. كما أن علينا أن نسافر بعقل منفتح يحترم البيئة التي تقدم لنا الكثير ويحافظ عليها، وأن نحرص على ألا نترك وراءنا شيئاً سوى آثار أقدامنا.
Comments